“تشجّعوا، أنا هو لا تخافوا” (صوت الرّب وِسط العواصف)

أوّلا: قراءة تأمليّة
  إنجيل القديس متّى 34-22: 14

في ذَلِكَ ٱلزَّمان، ٱضطَرَّ يَسوعُ تَلاميذَهُ أَن يَركَبوا ٱلسَّفينَةَ وَيَسبِقوهُ إِلى البَحرِ حَتّى يَصرِفَ ٱلجُموع. وَلَمّا صَرَفَ ٱلجُموعَ، صَعِدَ وَحدَهُ إِلى ٱلجَبَلِ لِيُصَلّي. وَعِندَ ٱلمَساءِ كانَ وَحدَهُ هُناك. وَكانَتِ ٱلسَّفينَةُ في وَسَطِ ٱلبَحرِ تَكُدُّها ٱلأَمواجُ، لِأَنَّ ٱلرّيحَ كانَت مُعاكِسَة. وَفي ٱلهَجعَةِ ٱلرّابِعَةِ مِنَ ٱللَّيلِ أَقبَلَ يَسوعُ نَحوَهُم ماشِيًا عَلى ٱلبَحر. فَلَمّا رَآهُ ٱلتَّلاميذُ ماشِيًا عَلى ٱلبَحرِ ٱضطَرَبوا وَقالوا: «إِنَّهُ خَيال» وَمِنَ ٱلمَخافَةِ صرَخوا ! فَلِلوَقتِ كَلَّمَهُم يَسوعُ قائِلاً: «ثِقوا، أَنا هُوَ! لا تَخافوا». فَأَجابَهُ بُطرُسُ قائِلاً: «يا رَبُّ، إِن كُنتَ أَنتَ هُوَ، فَمُرني أَن آتِيَ إِلَيكَ عَلى ٱلمِياه». فَقال: «هَلُمَّ!» فَنَزَلَ بُطرُسُ مِنَ ٱلسَّفينَةِ وَمَشى عَلى ٱلمِياهِ آتِيًا إِلى يَسوع. لَكِنَّهُ لَمّا رَأى شِدَّةَ ٱلرّيحِ خافَ. وَإِذ بَدَأَ يَغرَقُ، صاحَ قائِلاً: «يا رَبُّ، نَجِّني!» وَلِلوَقتِ مَدَّ يَسوعُ يَدَهُ وَأَمسَكَهُ وَقالَ لَهُ: «يا قَليلَ ٱلإيمانِ، لِمَ شَكَكت؟» وَلَمّا رَكِبا ٱلسَّفينَةَ سَكَنَت الريح. فَجاءَ ٱلَّذينَ كانوا في ٱلسَّفينَةِ وَسَجَدوا لَه قائِلين:«بِٱلحَقيقَةِ أَنتَ ٱبنُ ٱلله!» وَلَمّا عَبَروا جاؤوا إِلى أَرضِ جَنّيصارات.

1- يعلّم القديس أغسطينوس الكبير (معلّم الكنيسة)  أنّ البحر هو العالم الذي لا أمانَ له ولا سلامَ فيه، والسّفينة هي رمزٌ للكنيسة. أمّا الأمواج والرياح فهي الإضطهادات والمُعاكسات والتجارب التي تتعرّض لها، والبحّارة هم النفوس التي تعبرُ داخل السفينة نحو الأبديّة .

————————————————————————–

ألزم الرّب يسوع تلاميذه (النفوس) أن يدخلوا السفينة (الكنيسة)، وكأنّهم إذ سلَّموا حياتهم في يديه بكامل حريتّهم، كان يدفعهم إلى وسط البحر (العالم)، ليختبروا حضرته كسِرّ سلامهم عند هياج العواصف (التجارب) ضدّهم. إنّه يعرف ما هو لصالحهم، فيقدّمهم إلى الطريق الكرب والباب الضيّق، ليس إمعانًا في آلامهم، وإنّما ليَلتقوا بِه وسط الآلام كمصدر تعزيةٍ لهم.

فالسلام الدّاخلي إن لم تسبَقه ضيقاتٌ ومشقّات واجتهادات، إنّما هو سلامٌ مزيّف ! نحن نختبِرُ أنّنا في حالة سلام داخليّ عندما نكون في خِضمّ الضّيقات والمشقّات بينما نحافظ على رجائنا وهدوئنا الداخلي !

كالرّجل العاقل، الذي بنى بيته على الصّخر.
 فنزل المطر، وجاءت الأنهار، وهبت الرياح، ووقعت على ذلك البيت فلم يسقط، لأنه كان مؤسسًا على الصخر؛ الذي هو كلمة الرّب والعملُ بها ما
يُعطي النفس سلامًا داخليًّا لامُتزعزعًا.
(مثل الرّب يسوع متى 7: 24)

هذا، ومِن ناحية أخرى فإنّ السيّد ألزمهم بالعُبور كَمن يدفعهم إلى السّير وسط تيّارات هذا العالم – محمولين بالصليب – الذي يُرمز إليه أيضًا بالسفينة، ليجتازوا إلى الميناء السماويّ في البرّ الآخر.

أما السيّد المسيح فقد صعد إلى الجبل منفردًا، وكأنّه قد ارتفع إلى السماء هناك ليلتقي مع الآب من أجل تلاميذه.
(صعد الرّب الى السماء وجلس عن يمين الآب بعد أن أسّس الكنيسة بدمه)

إنّه يصلّي، أي يتحدّث مع أبيه، مُقدّمًا دَمهُ الكريم شفاعةً فيهم تَغفُر خطاياهم، هذا هو الرّصيد الذي يعيش به التلاميذ في وسط التجربة عندما تهب العواصف، وأيضًا العون الحقيقي لهم للعبور على الأبديّة. بصعوده إلى الجبل يصعدون هم أيضًا معه وبه وفيه، ليلتقوا مع الآب السماوي الذي يسندهم في الضيّق ويهبهم طبيعة الحياة السماويّة.

.. لكنّهم إذ جاءوا إلى وسط البحر مَنعتهم أمواج التجارب والرياح المُعاكِسة من السير نحو الشاطئ الآخر، وصاروا عاجزين، يُصارعون كَمن هم بدون يسوع لكي يَغلبوا الأمواج والأرواح المضادّة لبلوغ الشاطئ الآخر. وإذ بذلوا كل ما في قدرتهم لبلوغ الشاطئ الآخر ترفّق بهم الكلمة وجاء إليهم ماشيًا على البحر، هذا الذي لا تعوقه أمواج أو رياح !

اليوم؛ قد تثقَّلت البشريّة كُلّها بالخَطيّة كما بالرّصاص (زك 5: 7)، فغاصت في مياهٍ غامرة (خر 15: 10)، أمّا كلمة الله “يسوع” فهو وحده بلا خطيّة يقدر أن يرتفع على المياه فلا تبتلعه ! 

الكلمة الإلهي المتجسّد يُعلن مؤكِّدًا: “تشجّعوا، أنا هو لا تخافوا” [27]. وكأنّه يؤكّد حقيقة تأنّسه ووجوده في وَسطنا كسِرّ قوّة روحيّة وسلام، نازِعًا عنّا كلّ خوف.
لا يزال يسمح الله لكلّ مؤمن أن يدخل في السفينة وسط الأمواج، حتى يستطيع أن يدرك حقيقة وجوده في داخله، وسلطانه إذ هو قادرٌ أن يُهدِّئ الأمواج الخارجيّة والداخليّة، واهبًا إيّاه سَلامًا فائِقًا بإعلان حَضرته الإلهيّة فيه !

10452366_675485669213066_966446262649944063_n

«سلامًا أترك لكم. سلامي أعطيكم. ليس كما يُعطيه العالم أعطيكم أنا. لا تضطرب قلوبَكُم ولا تَرهب !
(الرب يسوع الحبيب، معزّي القلوب، يو 14: 27)

2- العجيب أنّ السيّد لم يهدِّئ الأمواج لكي يسير بطرس على المياه، وإنّما قال لبطرس: “تعال”، مهدّئًا أمواج قلبه الداخليّة ليَسير بالإيمان على الأمواج ولا يغرق.
تقدّم إليهم وسط الأمواج الهائِجة ليُعلن لتلاميذه أنّ الضّيقات هي المناخ الذي فيه يتجلّى السيّد وسط أولاده.
إنّه لا ينزع الآلام، وإنّما يتجلّى أمام أعينهم، مُعلِنًا حَضرته وأبوّته ورِعايته قَبل أن يُهدِّئ الأمواج.
حقًا فإنّ سرّ غرَقنا ليس الأمواج الخارجيّة، وإنّما فُقدان القلب سلامه وإيمانه !

يقول القديس ثيوفان الناسك:

إذا سكَن الرب فيك بسبب محبتك، فمَن هو عليك،
وأي أذى قادرٌ أن يصيبك؟
إذا كان هو سلامك فمّن يستطيع أن يقلقك؟
إذا كان هو فرحُك وعزاؤك..
فأي إنسان أو أي شيء يقدر أن يسبّب لك الأسى؟
إذا كان هو قوّتك فمَن يستطيع أن يغلبك؟
إذا كان هو مَلِكَك فمَن يستطيع أن يُخضِعك؟
“إذا كان الله معنا فمَن علينا ؟ ”
هكذا يصرخ الرسول بولس بقوّة مع كل محبّي الرب (روما 31:8).
هذه هي المحبّة وانظر ما تجلب معها!

jesusonwater_6582

بطرس خاف إذ رأى الريح شديدة. إنّها صورة البشريّة قبل التجسّد، التي آمنت بالله القادر أن يسير على مياه العالم، فخرجت تلتقي به، لكنها عجزت تمامًا، وكادت أن تغرق. لكن إذ مدّ السيّد يده أي تجسّد الابن الكلمة، وأمسَك بيده المجروحة أيدينا الضعيفة ضمَّنا إلى أحشائه غافرًا خطايانا، فصار لنا به إمكانيّة السير معه وفيه على المياه دون أن نغرق. به دخلنا إلى سفينة العهد الجديد كما دخل بطرس مع السيّد، ليبحر بنا إلى أورشليم العليا.
إذ وهب السيّد المسيح السّلام للنفوس المُضطربة بسبب الرياح المضادة ودخل بها إلى سفينة كنيسته المقدّسة لتعيش في سلامه الفائق، عبر بها إلى أرض جنِّيسارت.

فالرّب عندما تكلّم عن علامات الأزمنة وصعاب هذا الدهر، قال: الذي يثبتُ الى النهاية يخلُص ! (مت 24: 13)

وما هي النهاية هنا انتهاء العالم ! بل مرور التجارب وهدوء العواصف، عندما تنتهي كلّ الصّعاب والمعاكسات التي تكلّم عَنها  !

3- فالرّب لا يخفي علينا حقيقة شرور هذا العالم وأوجاعه وضيقاته كي لا نخاف، بل ينبّهنا عنها مسبقًا كي لا نخاف.
قائلًا:
 “قَدْ كَلَّمْتُكُمْ بِهذَا لِيَكُونَ لَكُمْ فِيَّ سَلاَمٌ. فِي الْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ، وَلكِنْ ثِقُوا: أَنَا قَدْ غَلَبْتُ الْعَالَمَ”.
(يو 16: 33)
هذه هي الحكمة الإلهيّة لا البشريّة؛ تمامًا كما رأى أنّ من الأنسب أن يُنبئ تلاميذَه بموته مُسبقًا، ولو كان هذا الأمر سيُسبّب لهم الخوف، على أن يخفي عليهم هذه الحقيقة، ولكنّه في الوقت نفسه طالما شدّد نفوسهم وعزّاهم.
———————-

تعالَ أيّها الرّب يسوع ومُر البحر والرياح والأمواج أن تهدأ وخلّص نفوسنا مِن الغرق الأبديّ ! 
أنصر كنيستكَ ونجّها مِن أعدائها والذئاب الخاطفة المُتغلغِلة بثياب الحَمل… 
يا أمّ الله يا معونة النصارى ويا نصر الكنيسة المقدّسة كوني عوننا الآن وفي ساعة موتنا 
آمين


:FOLLOW US ON FACEBOOK

تابعونا على الفيسبوك: قلب مريم المتألم الطاهر

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *