عظة البطريرك الكاردينال الراعي، يوم تكريس لبنان 16 حزيران 2013
ألقى الراعي العظة التالية:
“فخامة الرئيس، باسم إخواني أصحاب الغبطة البطاركة، وسيادة السفير البابوي، والسادة المطارنة، والرؤساء العامين، والآباء، وهذا الجمع الحاضر من الأخوة والأخوات، أهديكم أطيب تحية ودعاء. ما أجمل حضوركم على رأس هذه الجماعة المصلية التي توافدت من مختلف المناطق اللبنانية، ولاسيما حيث مرت سيدتنا مريم العذراء بتمثالها، تمثال أم النور، طيلة شهر أيار المنصرم والنصف الأول من الشهر الحالي، وكأنهم أتوا لرد الزيارة. لقد أتيتم فخامة الرئيس على رأس هذا الجمهور، الملتئم باسم الشعب اللبناني كله، للاحتفال بإعادة تدشين بازيليك سيدة لبنان بعد ترميمها، وبتكريس لبنان، كيانا وأرضا وشعبا ومؤسسات، لقلب مريم الطاهر. إن هذا التكريس حدث تاريخي حاسم، لأنه سيكون بداية مسيرة خلاصية للبنان، تقودها سيدته العذراء مريم، وقد أتينا لنضعه في عهدتها التي تنجز ما تشاء.
https://www.facebook.com/heart.of.mary.arabic
رفعت مريم، عذراء الناصرة، في بيت إليصابات، نشيد التعظيم لله القدير، لأنه صنع فيها العظائم، وكانت قد سمعت بشرى هذه العظائم العتيدة من فم الملاك جبرائيل. فعظمت الرب، وسمت نفسها “أمته الوضيعة”، وأعلنت تكريسها له، مقدمة كل كيانها، إذ أجابت الملاك: “أنا أمة الرب، فليكن لي بحسب قولك”(لو1: 38). فكانت كلها له باسم الجميع، لأنّه هو كلّه لنا جميعًا. هذا هو فعل العبادة الأعظم لله الذي حرّر مريم، ويحرّر كل إنسان، من الإنطواء على الذات، ومن العبودية للخطيئة ولأصنام هذا العالم (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 2097، 2617).
أتينا، وقلوبنا مملوءة فرحًا ونفوسنا رجاءً. نفرح بإعادة تدشين بازيليك سيدة لبنان ومذبحها بعد ترميمها الشامل، وهي تحمل في هيكليتها رمزين، الأول: رمز الأرزة المرتفعة نحو السماء، وقد تحققت في مريم كلمة الكتاب المقدس: “إرتفعت كالأرز في لبنان” (إبن سيراخ 24: 13)؛ والثاني: رمز السفينة أي الكنيسة والوطن اللذين تقودهما مريم سيدة لبنان، بنعمة ابنها الإلهي يسوع المسيح، لتعبر بهما وسط أمواج الشر ورياحه إلى الشاطئ الأمين. أما الرجاء الذي يملأ نفوسنا، فهو أننا أتينا لكي نكرس لبنان لقلب مريم الطاهر، وفينا يقين لا يتزعزع أن مريم وحدها تستطيع، بقدرة الله، وبقدرة استحقاقاتها لديه، أن تنقذ لبنان من أمواج الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية؛ وهي أمواج عاتية تتقاذفه وتنذر بغرقه. إن رجاءنا مرتكز على الاختبار، إذ لا أحد منا يشك في أن مريم، سيدة لبنان، هي التي كانت تنتشله بيدها الخفية في كل مرة أشرف على الغرق والتلاشي ولاسيما في الحرب الأخيرة. ومن لا يعرف أنه عندما كرس الطوباوي البابا يوحنا بولس الثاني في 25 آذار 1984 العالم لقلب مريم الطاهر، مع ذكر خاص لروسيا، وهي التي كانت قد طلبت هذا التكريس في ظهورها في بلدة فاتيما بالبرتغال، في 13 تموز 1917، كيف سقط جدار برلين بعد خمس سنوات (سنة 1989) وكيف، في 8 كانون الأول 1991، عيد سلطانة الحبل بلا دنس، حل البرلمان الروسي نفسه وانهار الاتحاد السوفياتي وتفككت جمهورياته.
أن نكرّس لبنان لقلب مريم الطاهر، فهذا مطلب لبناني مسيحي إسلامي، كما يتبيّن مِن هذا الحضور اليوم، ومن إعلان عيد البشارة لمريم في 25 آذار يومًا وطنيًا. فبين لبنان ومريم تاريخ عمره ألفا عام. لقد ترددت مريم إلى نواحي صور وصيدا مع الرب يسوع ابنها. فبلدة قانا شاهدة لمعجزة تحويل الماء إلى خمر فائق الجودة، التي اجترحها يسوع في ذاك العرس بطلب منها. ومغارة المنطرة في مغدوشة، تشهد لانتظارها يسوع بعد تجواله في المنطقة، حسب التقليد. وصور بنت، عام 315، أي بعد سنتين من إعلان براءة ميلانو(313) للملك قسطنطين، كاتدرائيتها على اسم العذراء مريم، ويعتبرها المؤرخون الأثريون أنها الأقدم في تاريخ الكنيسة، وأجمل كنائس فينيقيا واعظمها، وسقفها من خشب الأرز (أنطوان خوري حرب، جذور المسيحية في لبنان، ص 72). وجبيل شيدت كنيسة سيدة البحر المطلة على الشاطئ، في عهد الشهيدة أكويلينا الجبيلية (+ 291). في البترون حيث دخلت المسيحية مع بطرس الرسول، شيدت كنيسة سيدة العذراء “سيدة نايا” (أي السيدة الجديدة) في كفرشليمان، في مغارة مدفنية محفورة في الصخر، قبل العهد المسيحي. في جبة بشري، بني في نهاية القرن الثالث عشر دير سيدة حوقا، بين بشري وإهدن، الذي حول عام 1625 إلى مدرسة إكليريكية للموارنة. في أنفه- الكورة، شيدت، في العهد البيزنطي، كنيسة “سيدة الريح”، وهي أقدم كنائس العذراء في الشرق. نجد في إحدى رسوماتها الجدارية أيقونة العذراء وهي تهدئ العاصفة. وتجاه بلدة كوسبا، بني في القرن الرابع دير سيدة حماطوره في قلب الشير، داخل تجويف صخري، التابع لكنيسة الروم الأرثوذكس. وفي الكورة أيضا، بني عام 1157 دير سيدة البلمند. هذا فضلا عن كنيسة سيدة الحصن في إهدن التي بنيت في النصف الثاني من القرن الثامن على أنقاض معبد وثني قديم؛ وكنيسة سيدة الغسالة العجائبية في القبيات بعكار، مبنية على أنقاض كنيسة قديمة جدا؛ وكنيسة سيدة القلعة في منجز التي يكرمها المسيحيون والمسلمون؛ وكنيسة سيدة البرج في دير الأحمر (القرن السابع)؛ وكنيسة السيدة في رأس بعلبك التي بنيت داخل دير بيزنطي في القرن الرابع، يقصدها الزوار من كل المناطق، مسيحيون ومسلمون، ويكرمون أيقونتها العجائبية ويقسمون أمام مذبحها على الوفاء بالوعود والأمانة للعهود.
ذكرنا هذه الكنائس القديمة العهد، لإظهار العلاقة التاريخية بين السيدة مريم العذراء ولبنان. ولكن يوجد في لبنان اليوم أكثر من 1500 كنيسة على اسم العذراء، وأكثر من 3500 مذبح على اسمها في كل المناطق اللبنانية، حتى قيل إن لبنان كله معبد للعذراء، مملكة العذراء. والسائح البلجيكي Georges Dumont سمى العذراء “أميرة البلاد الكبرى”. وقال الكاتب الفرنسي Joseph Poujoulat واضع كتاب “رسائل الشرق”، عند ذكره دير سيدة البلمند: “إن الكثيرين مِن الشعب اللبناني في لبنان يثقون بالعذراء أكثر من ثقتهم بالله نفسه”.
إن اللّبنانيين، المتنوّعين في طوائفهم ومذاهبهم المسيحية والإسلامية، يتوحدّون في مَعبد العذراء. وكم من كنائس بناها أو ساهم في بنائها مسلمون وموحّدون دروز، مثل سيدة التلّة بدير القمر، والسّيدة في المنطرة، وكنيسة درب السيم في شرق صيدا. وبطريركياتنا الأربع في لبنان مكرسة للسيدة العذراء: سيدة البطريركية المارونية “سيدة الانتقال” في بكركي، بعد سيدة يانوح وإيليج وميفوق وقنوبين؛ وسيدة بطريركية الأرمن الكاثوليك “الأم الحزينة” في بزمار؛ وسيدة بطريركية السريان الكاثوليك “سيدة النجاة” في الشرفة؛ و”سيدة البشارة” التي شيدتها بطريركية الروم الملكيين الكاثوليك.
فمن الواجب إذن، أن نكرس اليوم لبنان كله، كيانا وأرضا وشعبا ومؤسسات، لقلب مريم الطاهر، فهي الأم والمحامية والشفيعة. تكريس لبنان لقلب مريم الطاهر، هو التزام منا جميعا بحمايته كأرض مقدسة، وبمحاربة الفساد الأخلاقي في داخل كل إنسان، والظاهر في الإعلانات على الطرق وفيوسائل الإعلام وتقنياته الحديثة، والمتفشي في الأداء السياسي والإدارات، وفي التخاطب والتعاطي، وفي عدم الحياء. وهو التزام بالمصالحة الوطنية، التي تبدأ بين السياسيين، ولاسيما بين الفريقين المتنازعين، المعروفين ب8 و14 آذار، اللذين، بنزاعهما المتمادي، شوها وجه لبنان وميثاق العيش معا، ووجه لبنان التنوع والديموقراطية، لبنان القيمة الحضارية الثمينة، لبنان الحريات العامة وحقوق الانسان، لبنان حوار الحياة والثقافة والمصير. وبنزاعهما المتمادي عطلا الانتخابات النيابية في موعدها، ويعطلان تأليف حكومة جديرة برفع تحدي الأزمة الاقتصادية والمعيشية الخانقة، وتحدي الفلتان الأمني المنذر بأوخم النتائج، وتحدي وجودمليون ومائتي ألف نازح سوري، مع كل ما يحمل هذا الوجود القسري المقهور من ويلات اقتصادية وأمنية وإنسانية وسياسية. وبنزاعهما يفككان المؤسسات الدستورية والقضائية الواحدة تلو الأخرى. وبنزاعهما أطاحا بحياد لبنان وإعلان بعبدا، وتورطا في الحرب المؤلمة والمؤسفة في سوريا، ويورطان لبنان وشعبه في تداعياتها وفي نتائج هذا التورط.
لذا جِئنا اليوم لنكرس لبنان لأمّنا مريم العذراء في بازيليك سيدة لبنان، وتفعل كذلك معنا الرعايا والأديار والعائلات في كل بقعة من أرض لبنان، ويفعل أيضًا كل الذين يشاركوننا عبر وسائل الإعلام. أتينا كدولة لبنانية ممثلة بكم، يا فخامة الرئيس، وأنتم، كما يدعوكم الدستور اللبناني “رمز وحدة الوطن، والذي يسهر على احترام الدستور والمحافظة على استقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضيه” (المادة 49). ونحن، في هذه الصفة، وكل شعب لبنان، ندعمكم الدعم الكامل، ونصلي من أجلكم في كل مبادرة إنقاذية يلهمكم الله والعذراء مريم على اتخاذها، من أجل المحافظة على كيان لبنان في وحدته وسيادته واستقلاله، بعقد إجتماعي متجدد على أساس الميثاق الوطني المعقود سنة 1943. وندعم ونصلي من أجل حماية الجيش اللبناني والقوات المسلحة التي أنتم قائدها الأعلى، فهي وحدها، دون سواها، تحمي الكيان اللبناني في مقوماته الثلاثة.
وأتينا ككنيسة في لبنان، متمثلة برعاتها وشعبها المؤمن، لكي نلتزم بمقتضيات هذا التكريس، ونعلن إيماننا بأن خلاص لبنان وبلدان الشرق الأوسط إنما يأتي على يد أمنا مريم العذراء، سيدة لبنان وسلطانة السلام، ونجمة صباح هذا الشرق. لهذا نعتبر، بإيمان وطيد وثقة لا تتزعزع، أن السادس عشر من حزيران 2013 هو يوم تاريخي حاسم للبنان؛ وأنه سيكون يوما وطنيا وكنسيا، يجمعنا في كل سنة لتجديد هذا التكريس. وإننا، إذ نعلن الايمان بكيان لبنان في وحدته وسيادته واستقلاله، وحياده الايجابي المتلزم بقضايا العدالة والأخوة والسلام، عن طريق الحوار والتفاهم في محيطنا العربي والاسلامي؛ والعمل على تخطي العصبيات والمذهبيات والهويات القاتلة؛ والسعي الدؤوب إلى قيام دولة عصرية ديموقراطية في المنطقة تعزز حق المواطنة للجميع، وحقوق الانسان، نتلو معا، في ختام هذه الذبيحة المقدسة وبنعمتها، فعل تكريس لبنان والشرق الأوسط للعذراء مريم، لأنهما أعطيانا وأعطيا البشرية الكثير الكثير، راجين، والسماء مفتوحة بليتورجيتها الإلهية على هذه الليتورجية الأرضية، أن يتقبل الله هذا التكريس الشخصي والجماعي والوطني لمجده تعالى وخلاص وطننا لبنان وبلداننا المشرقية، وخلاص نفوسنا، هاتفين مع مريم: “تعظم نفسي الرب… لأن القدير يصنع فينا العظائم” (لو1: 46 و 47)، آمين”.
https://www.facebook.com/heart.of.mary.arabic